كتاب السهم

عمرو حلمي يكتب.. «طفولة آمنة في بيوت الله»

لم يكن التعليم يومًا مجرد كتب ومناهج، بل هو بناء متكامل يبدأ من السنوات الأولى للطفل، حيث تتشكل الشخصية وتُغرس القيم، وتنمو المشاعر والأفكار الأولى التي تظل بصماتها راسخة مدى الحياة. ومن هذا المنطلق، جاءت خطوة وزارتي الأوقاف والتربية والتعليم بتوقيع بروتوكول تعاون يهدف إلى إنشاء حضانات تعليمية داخل المساجد، باعتبارها مشروعًا تنمويًا تربويًا يحمل في جوهره رؤية متقدمة لتأسيس جيل جديد على أسس متينة من المعرفة والانتماء.

المبادرة تنبع من الإيمان بأن المسجد، بوصفه بيتًا للعبادة، لا تنحصر مهمته في أداء الشعائر فقط، بل يتسع ليكون منبرًا للتربية والتهذيب، ومكانًا آمِنًا تنشأ فيه الطفولة وسط أجواء من الطمأنينة والاحترام والسمو الروحي.

وقد لمسْت هذه القيمة شخصيًا حين كنت طفلًا في حضانة داخل أحد مساجد الأحياء الشعبية، حيث كان للحروف الأولى وقع خاص، وللكلمة الطيبة أثر لا يُنسى. كانت الحضانة بسيطة في شكلها، غنية بمحتواها، قادرة على احتضان كل طفل كجزء من جماعة تُربّي قبل أن تُعلِّم، وتُهذّب قبل أن تُملي الحروف.

أبعاد المشروع وأثره
يُعد تخصيص مسجد في كل قرية لاستقبال الأطفال من سن ٤ سنوات دون دفع أي رسوم، خطوة جريئة نحو دعم الأسر غير القادرة، وتوفير تعليم ابتدائي في بيئة راقية خالية من مظاهر الضغط الاستهلاكي الذي يطغى على الكثير من الحضانات الخاصة.

إن الدمج بين التعليم الديني والأخلاقي والتفاعل التربوي المبكر، يؤسس لطفل يتمتع بتوازن نفسي، ويملك أدوات إدراك ذاتي ومجتمعي منذ نعومة أظافره. فالمجتمع الذي يُهمل طفولته، سيواجه رجلًا متعثرًا في الكبر، غير قادر على التفاعل أو المواجهة أو البناء.

هذه المبادرة قد تساهم في تقليل السلوكيات العدوانية، وتزرع قيم الحوار والتراحم والانتماء. كما أنها توفر بيئة تفاعلية تدمج بين اللعب والتعلُّم، وتحمي الطفل من الانكشاف المبكر على عالم الشاشات المليء بالتشتت والرسائل المضللة.

التحديات المتوقعة
رغم الأثر الإيجابي المتوقع، لا يخلو المشروع من بعض التحديات التي يجب التعامل معها برؤية واقعية، منها:

جاهزية المساجد من حيث البنية التربوية: ليست كل المساجد مؤهلة لاستقبال الأطفال، وبعضها قد يحتاج لتجهيزات خاصة لضمان الأمان والسلامة.

مراعاة قدسية المسجد أثناء النشاط التربوي: وهذا يتطلب تنسيقًا دقيقًا بين إدارة المسجد والطاقم التعليمي لضمان التوازن بين الوظيفة التربوية والدينية.

الحاجة لمنهج تربوي موحد: يُراعي خصوصية الطفل وبيئة المسجد، ويضمن تحقيق الأهداف التربوية بعيدًا عن التلقين أو الجمود.

مقترحات للتطوير
إنشاء دليل تربوي مُصمم خصيصًا للمساجد، يشمل أنشطة تتناسب مع روح المكان وسِن الطفل.

تدريب المعلمين على طرق التربية في البيئة الدينية، مع مراعاة خصوصية كل منطقة جغرافية.

إشراك الأهالي في الحضانة من خلال فعاليات مجتمعية صغيرة، تعزز الارتباط بين المسجد والأسرة.

تدشين حملات إعلامية تُبرز الأثر الحقيقي للمشروع، وتقدم نماذج من تجارب ناجحة تؤكد جدواه، ومنها ما عشته بنفسي.

في الختام
إن حضانات المساجد ليست فقط وسيلة تعليمية، بل هي خطوة لإعادة ترميم البنية القيمية للمجتمع، والربط بين المعرفة والوجدان. المشروع يُعيد للمساجد دورها الأصلي، ويمنح الطفل بدايةً سليمة تُمكّنه من مواجهة الحياة بفكر مُستنير، وسلوك سوي، وانتماء حقيقي.

المجتمعات التي تحسن الإنصات لطفولتها، هي التي تملك مستقبلًا مُشرفًا. والمجتمعات التي تؤمن بأن التربية لا تبدأ في المدرسة، بل في القلب والبيت والمسجد، هي التي تبني الإنسان قبل أن تبني الجدران.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى