عمرو حلمي يكتب: برخيل تحترق.. هل هناك قصة لم تُروَ بعد؟

في صعيد مصر، بقرية برخيل بسوهاج، تشتعل النيران بشكل غامض ومخيف في المنازل، محولةً حياة الأهالي إلى كابوس. هذه الحرائق، التي لا تخضع لمنطق العلم، تثير تساؤلات عميقة: هل يمكن أن تكون قوى خفية وراء هذا الدمار، تنتقم من البشر؟
بالنسبة لكبار السن في مركز البلينا، لم يكن هذا المشهد جديدًا. إنه مجرد فصل آخر في حكاية ممتدة على مدار عقدين، وهي حكاية نُسجت خيوطها بين تقارير رسمية باردة وأساطير شعبية ملتهبة، وراسخة في وجدان الصعيد.
حينما حلّقت “الطيور المشتعلة” في 2004
بدأ كل شيء في عام 2004. اندلعت حرائق متفرقة وقتها في نجوع برديس، وانتشرت رواية شعبية عن طيور مشتعلة تحط على أسطح المنازل فتشعلها.
وبينما تراوحت التفسيرات بين الأساطير ومحاولة إيجاد سبب علمي بأن حريقًا ربما شب في “برج حمام” فاحترقت الطيور ومن ثم حلقت في سماء القرية هربًا من النيران التي تكون قد أمسكت بها بالفعل، وهكذا انتقلت الحرائق التي تكررت على مدار أيام، أكدت جهات التحقيق وقتها أن “ماسًا كهربائيًا” كان السبب، وهو تفسير لم يُقنع الأهالي بعد نشوب حرائق في منازل أخرى لم تدخلها الكهرباء.
لعنة الجن الحارق في 2017
عاد شبح الحرائق أكثر ضراوة في 2017، وهذه المرة في قرية السلماني. أكثر من 30 منزلًا تحولت إلى رماد، وخسائر قُدرت بمليون جنيه، لم تكن مادية فحسب، بل إنسانية بامتياز عن جهاز عروس التهمته النيران قبل الزفاف بأيام، وعن مستقبل قضى عليه “الجن”، بحسب الروايات المتداولة، التي نفاها علي رفاعي رئيس مجلس المدينة – وقتها – مؤكدًا أن هذه الحرائق تندلع بسبب “تطاير شرر من الأفران الطينية”، وهو ما رد عليه الأهالي بأن “حرائق الجن لا تطفئها المياه”.
وهكذا، استمر الحال بشكل شبه سنوي؛ تهدأ النيران في قرية بينما تشتعل في أخرى، وتتطاير الروايات التي تُفسر الأمر بالجن مع ألسنة اللهب من مكان لآخر.
برخيل.. العودة إلى نقطة الصفر
واليوم ومع عودة النيران لتضرب برخيل، طفا الجدل القديم على السطح، حتى وصل إلى الدكتور عباس شومان، وكيل الأزهر السابق، الذي نقل استغاثة من الأهالي عبر حسابه بـ “فيسبوك”، كاشفًا عن عمق الأزمة.
وهو ما تعاطت معه مؤسسة الأزهر الشريف بإرسال وفد رسمي من وعظ سوهاج إلى القرية لتقديم الدعم النفسي ومواجهة الشائعات التي أعيد تادولها بين السكان، وقد شدد الوفد على “ضرورة الاحتكام إلى العلم”. بينما قدم أحد الأساتذة الجامعيين -معلقًا على منشور شومان- تفسيرًا علميًا محتملًا لهذه الحرائق، يرجعها إلى غاز الميثان القابل للاشتعال ذاتيًا، والذي تنتجه المخلفات الزراعية المخزنة بالمنازل مع ارتفاع درجات الحرارة.
أما رسميًا، فقد وجه المحافظ اللواء عبد الفتاح سراج بتواجد فرق من مديريات التضامن الاجتماعي والصحة والتموين في القرية لتقديم الدعم العاجل، كما كلف مسؤولي مدينة البلينا بالتواجد الميداني المستمر، وفق مصادر لمصراوي.
وفيما تتحرك الجهات الرسمية، تبقى الحقيقة غائبة، ويظل أهالي برخيل عالقين في صراع مرير بين تفسيرات العلم وروايات الأجداد، على أمل أن تمنحهم الأيام القادمة إجابة شافية، تطفئ مخاوفهم قبل أن تطفئ لهيب منازلهم.
نيران الجن ولعنة الكنوز المدفونة
الأهالي في برخيل يواجهون نيرانًا تشتعل من العدم، تحرق الأثاث والملابس، وتدمر البيوت دون سبب ظاهر. في ظل هذا الغموض، يسيطر اعتقاد واحد: الجن. فالكثيرون من الأهالي هم من يروجون إلى أن هذه الحرائق ليست سوى انتقام من الجن، بسبب عبث أحدهم في مقبرة قديمة، أو محاولة فاشلة لتحضير كائنات من العالم الآخر بغرض التنقيب عن الآثار.
هذا الاعتقاد ليس جديدًا؛ ففي الثقافة الشعبية، يُربط الجن بالكنوز المدفونة وحراستها. يُروى أن من يحاول التنقيب عن الآثار دون علم أو إذن من حراسها الخفيين، قد يواجه لعنات أو انتقامًا شديدًا. فالجن، بحسب هذه المعتقدات، يسكنون الأماكن المهجورة والقديمة، وخاصة المقابر التي تحتوي على كنوز، ويعتبرون أنفسهم حراسًا لها. أي محاولة للوصول إلى هذه الكنوز دون طقوس معينة أو إذن منهم، قد يؤدي إلى غضبهم وانتقامهم، والذي قد يتجلى في ظواهر غريبة مثل الحرائق الغامضة أو الأمراض المفاجئة. هذه الروايات تفسر لجوء الأهالي إلى تشغيل القرآن الكريم في الجوامع، في محاولة لتحصين القرية وطرد الأرواح الشريرة.
العلم في مواجهة الغيب
غرابة هذه الحرائق دفعت المؤسسات الرسمية والدينية للتحرك. الأزهر الشريف أرسل وفدًا لمواجهة الشائعات والخرافات، مؤكدًا على أهمية التعامل بعقلانية. محافظة سوهاج بدورها تحركت للبحث عن تفسيرات علمية، مثل الانبعاثات الحرارية من المخلفات الزراعية.
لكن، هل يمكن للعلم وحده أن يفسر اشتعال النيران في أماكن مغلقة دون مصدر، أو تكرارها اليومي؟ وهل يمكنه تفسير حالة الرعب التي دفعت الأهالي للجوء إلى القرآن؟
برخيل: لغز ينتظر الحقيقة
تظل برخيل معلقة بين العلم والخرافة، في انتظار حقيقة قد لا تكشفها التحقيقات المادية وحدها. فبينما يبحث العلم عن إجابات، يظل الأهالي يواجهون ظاهرة تتحدى كل منطق، وتؤكد لهم أن هناك قوى خفية قد تكون فاعلة في عالمنا، قوى تتجاوز حدود إدراكنا البشري.
هل هذه الحرائق مجرد ظاهرة طبيعية لم نفهمها بعد، أم أنها إشارة إلى أننا نعيش في عالم أكثر تعقيدًا وغرابة مما نتصور؟ يبقى السؤال معلقًا، وتبقى برخيل شاهدة على لغز يشتعل، يذكرنا بأن هناك دائمًا ما هو أبعد من العلم، وأن بعض الحقائق قد لا تُرى إلا بعين الإيمان بما وراء الطبيعة.